سؤال واحد يتردّد على ألسنة الجميع “هل سيتراجع سعر صرف الدولار قريباً أم أنه سيستمر بالارتفاع؟” سؤال لا يلقى أجوبة حاسمة، وإن كانت كافة المؤشرات تؤكد عُمق الأزمة وانعدام الحلول. وتالياً، انفلات سعر صرف الدولار وارتفاع التضخم.
هؤلاء الذين يرصدون تغيّر سعر صرف الدولار يومياً ليسوا بتجار ولا صرّافين. هم موظفون يتقاضون رواتب محدودة بالليرة اللبنانية، أفقدها انهيار سعر الصرف قيمتها. فلم يعد بمقدورهم تأمين معيشتهم اليومية، على الرغم من تقليص حجم ونوعية استهلاكهم. لكن هل تسد مداخيلهم اليوم حاجاتهم الأساسية من مأكل ومشرب وتعليم وطبابة؟ الجواب قطعاً لا.
ارتفاع الأسعار
ارتفاع تضخم الأسعار وتدهور القدرة الشرائية لم يُطيحا برواتب الحد الأدنى للأجور وذوي المداخيل المتدنية وحسب، بل رواتب الموظفين متوسطي المداخيل وكافة الفئات الوظيفية، وحتى الفئات الوظيفية المتقدّمة أيضاً باتت رواتبها عاجزة عن تأمين المتطلبات المعيشية لعائلة من 3 أو 4 أفراد فقط.
وليس المواطن أ.م. وهو مؤهل بالجيش اللبناني سوى نموذج عن العائلات اللبنانية التي انحدرت خلال أقل من عامين من الطبقة المتوسطة إلى مصاف الفقراء. بات أ.م. وزوجته، وهما والدان لطفلين، عاجزين عن تأمين معيشة عائلتهما الصغيرة على مدار الشهر، بعد أن كانا “مرتاحين مادياً” على حد تعبيره. فمداخيل أ.م. وزوجته التي تعمل في القطاع العام كانت تفوق في وقت سابق، أي قبل انفجار الأزمة، 3300 دولار، أي نحو 5 ملايين ليرة. أما اليوم باتت مداخيلهم تساوي 250 دولاراً فقط، مع بلوغ سعر صرف الدولار 20000 ليرة.
المسألة ليست مسألة أكل وشرب، يقول أ.م. “يمكننا أن نأكل ما تيسر بسبب الارتفاع الهائل في أسعار المواد الغذائية. لكن المشكلة الأكبر تكمن في تأمين الكهرباء والمياه وتكاليف المدرسة والنقل إلى مراكز عملنا”. ويوضح بأنه وعائلته تخلوا عن كل مظاهر الرفاهية التي كانوا يتمتعمون بها، من ضمنها الخروج بنزهة في السيارة توفيراً للبنزين، وشراء الثياب الجديدة في الأعياد توفيراً للمال، وحتى المصروف اليومي للأولاد توقف، “لكن على الرغم من كل ذلك لا تغطي مداخيلنا النفقات الضرورية”.
لا يبالغ أ.م. حين يصف الـ5 ملايين ليرة بالـ”شوية فراطة”، في إشارة إلى فقدان قيمة الليرة وإن كانت بالملايين. فأسعار السلع الأساسية ارتفعت بنسبة هائلة منذ تموز 2019. وحسب الدراسة الأخيرة لمرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، فإن أسعار 10 سلع غذائية أساسية ارتفعت أكثر من 700 في المئة، منها “ما تحتاجه الأسر كمكونات أساسية في غذائها كالخضار والحبوب والألبان، ولحم البقر والبيض والزيت، حتى الخبز العربي الذي يُفترض أنه مدعوم عبر دعم استيراد القمح على سعر الصرف الرسمي، ارتفع ثمنه 233 في المئة منذ أيار 2020”.
وحسب مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، فإنّ كلفة الغذاء بالحد الأدنى لأسرة مكوّنة من 5 أفراد أصبحت تقدر شهرياً بأكثر من 3500000 ليرة لبنانيّة، من دون احتساب كلفة المياه والغاز والكهرباء، وهي بدورها في ارتفاع باهظ. هذه النتيجة تأخذنا إلى واقع أكثر إيلاماً مما عرضه مرصد الأزمة في الجامعة الأميركية، وذلك في حال احتسبنا تكلفة الكهرباء والمياه والغاز والمازوت في المناطق الجبلية الذي يتم تخزينه حالياً تحضيراً لمواسم البرد والصقيع.
كارثة الكهرباء والمياه
وإذا ما أضفنا تكلفة الكهرباء والمياه والغاز والمازوت لاحقاً، والبنزين حالياً، إلى كلفة الغذاء المقدّرة بنحو 3500000 ليرة تصبح الأسر اللبنانية عاجزة تماماً عن تأمين معيشتها، فاشتراك مولد الكهرباء سعة 5 أمبير يتراوح بين 700 ألف ليرة ومليون و200 ألف ليرة، في حين أنه لا يمكن الاستغناء عن اشتراك المولّد، نظراً إلى غياب التغذية الكهربائية الرسمية على مدار 21 ساعة يومياً.
ويضيف أ.م. إلى فاتورة معيشة عائلته، وفاتورة المولد الكهربائي البالغة 800000 ليرة، تكلفة المياه خصوصاً في فصل الصيف، فالصهريج سعة 1000 ليتر يغطي حاجة عائلته للمياه على مدار 4 أيام فقط، في حين تبلغ تكلفة كل صهريج 100 ألف ليرة. ما يعني أن تكلفة المياه صيفاً في الكثير من المناطق تتراوح بين 700 و800 ألف ليرة شهرياً، علماً ان تكلفة صهريج المياه تصل في بعض مناطق البقاع إلى 150000 ليرة.
والمحروقات
أما أسعار البنزين والمازوت فكارثية. إذ لا يكتفي أصحاب محطات المحروقات في المناطق خارج بيروت ببيع المحروقات بأسعارها الرسمية، التي ارتفعت أضعاف ما كانت عليه قبل الأزمة، بل أنهم يبيعون صفيحة البنزين والمازوت بأسعار تفوق تلك المحددة رسمياً، ما يجعل غالبية المواطنين عاجزين عن تأمين المازوت للتدفئة في الشتاء، ويجهدون لتأمين البنزين للوصول إلى مراكز عملهم.
ويبلغ سعر صفيحة البنزين في مدينة بعلبك على سبيل المثال 165000 ليرة، وفي عدد كبير من قرى البقاع تتراوح بين 100 ألف ليرة و125 ألف ليرة، في حين أن سعرها الرسمي نحو 78 ألف ليرة. وقلة هي المحطات التي تلتزم بالسعر الرسمي للمحروقات. أما المازوت فشبه مفقود من المناطق. وفي حال توفره، فلا تباع الصفيحة بأقل من 150000 ليرة، في حين ان سعرها الرسمي نحو 58 ألف ليرة.
هذه التكاليف (الكهرباء والمياه والبنزين وغيرها) إذا ما أضيفت إلى تكلفة الغذاء تجعل من الغالبية الساحقة من موظفي القطاعين العام والخاص فقراء عاجزين عن تأمين حاجاتهم الأساسية.